كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: ومن هذا المعنى قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: «لا تكثر همك ما يُقَدّر يكون وما تُرْزق يأتيك» وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا؛ سبحانه لا شريك له.
وروي أن ابن لقمان سأل أباه عن الحبة تقع في سُفل البحر أيعلمها الله؟ فراجعه لقمان بهذه الآية.
وقيل: المعنى أنه أراد الأعمال، المعاصي والطاعات؛ أي إن تك الحسنة أو الخطيئة مثقالَ حبة يأت بها الله؛ أي لا تفوت الإنسان المقدّر وقوعُها منه.
وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة ترجية وتخويف مضاف ذلك إلى تبيين قدرة الله تعالى.
وفي القول الأوّل ليس فيه ترجية ولا تخويف.
قوله تعالى: {مثْقَالَ حَبَّةٍ} عبارة تصلح للجواهر، أي قدر حبة وتصلح للأعمال؛ أي ما يزنه على جهة المماثلة قدر حبة.
ومما يؤيّد قول من قال هي من الجواهر: قراءة عبد الكريم الجَزَري {فتكنّ} بكسر الكاف وشدّ النون، من الكنّ الذي هو الشيء المغطى.
وقرأ جمهور القرّاء: {إنْ تَكُ} بالتاء من فوق {مثْقَالَ} بالنصب على خبر كان، واسمها مضمر تقديره: مسألتك، على ما روي، أو المعصية والطاعة على القول الثاني؛ ويدلّ على صحته قولُ ابن لقمان لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان له: {يا بني إنَّهَآ إن تَكُ مثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ} الآية.
فما زال ابنه يضطرب حتى مات؛ قاله مقاتل.
والضمير في {إنَّهَا} ضمير القصة؛ كقولك: إنها هند قائمة؛ أي القصة إنها إن تك مثقال حبة.
والبصريون يجيزون: إنها زيد ضربته؛ بمعنى إن القصة.
والكوفيون لا يجيزون هذا إلا في المؤنث كما ذكرنا.
وقرأ نافع: {مثقالُ} بالرفع، وعلى هذا {تكُ} يرجع إلى معنى خردلة؛ أي إن تك حبة من خردل.
وقيل: أسند إلى المثقال فعلًا فيه علامة التأنيث من حيث انضاف إلى مؤنث هو منه؛ لأن مثقال الحبة من الخردل إما سيئة أو حسنة؛ كما قال: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالهَا} [الأنعام: 160] فأنّث وإن كان المثل مذكرًا؛ لأنه أراد الحسنات.
وهذا كقول الشاعر:
مَشَيْنَ كما اهتزت رماحٌ تسفّهَتْ ** أعاليهَا مَرُّ الرياح النَّواسم

و{تَكُ} هاهنا بمعنى تقع فلا تقتضي خبرا.
قوله تعالى: {فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ} قيل: معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم؛ أي أن قدرته تعالى تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء والأرض.
وقال ابن عباس: الصخرة تحت الأرَضين السبع وعليها الأرض.
وقيل: هي الصخرة على ظهر الحوت.
وقال السُّدّي: هي صخرة ليست في السموات والأرض، بل هي وراء سبع أَرَضين عليها مَلَك قائم؛ لأنه قال: {أَوْ في السماوات أَوْ في الأرض} وفيهما غُنْية عن قوله: {فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ} وهذا الذي قاله ممكن، ويمكن أن يقال: قوله: {فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ} تأكيد؛ كقوله: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان منْ عَلَق} [العلق: 1 2]، وقوله: {سُبْحَانَ الذي أسرى بعَبْده لَيْلًا} [الإسراء: 1].
{يَا بُنَيَّ أَقم الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بالْمَعْرُوف وَانْهَ عَن الْمُنْكَر وَاصْبرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلكَ منْ عَزْم الْأُمُور (17)}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا بني أَقم الصلاة} وصّى ابنه بعُظْم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا إنما يريد به بعد أن يمتثل ذلك هو في نفسه ويزدجر عن المنكر، وهنا هي الطاعات والفضائل أجمع.
ولقد أحسن من قال:
وابدأ بنفسك فانهها عن غَيّها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

في أبيات تقدّم في البقرة ذكرها.
الثانية: قوله تعالى: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} يقتضي حضًّا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر؛ فهو إشعار بأن المغيّر يؤذَى أحيانًا؛ وهذا القدر على جهة الندب والقوّة في ذات الله؛ وأما على اللزوم فلا، وقد مضى الكلام في هذا مستوفًى في آل عمران والمائدة.
وقيل: أمره بالصبر على شدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عز وجل؛ وهذا قول حسن لأنه يعمّ.
الثالثة: قوله تعالى: {إنَّ ذَلكَ منْ عَزْم الأمور} قال ابن عباس: من حقيقة الإيمان الصبرُ على المكاره.
وقيل: إن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور؛ أي مما عزمه الله وأمر به؛ قاله ابن جريج.
ويحتمل إن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحَزم السالكين طريق النجاة.
وقول ابن جريج أصوب.
{وَلَا تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس وَلَا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وابن مُحَيْصن: {تصاعر} بالألف بعد الصاد.
وقرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر والحسن ومجاهد: {تُصَعّر} وقرأ الجحدري: {تُصْعر} بسكون الصاد؛ والمعنى متقارب.
والصَّعَر: الميل؛ ومنه قول الأعرابي: وقد أقام الدهر صعرى، بعد أن أقمت صعره.
ومنه قول عمرو بن حُنَيّ التّغلبي:
وكنا إذا الجبّار صَعّر خدّه ** أقمنا له من مَيْله فَتقوَّم

وأنشده الطبري: فتقوّمَا، قال ابن عطية: وهو خطأ؛ لأن قافية الشعر مخفوضة.
وفي بيت آخر:
أقمنا له من خدّه المتصعر

قال الهروي: {ولا تصاعر} أي لا تعرض عنهم تكبّرًا عليهم؛ يقال: أصاب البعيرَ صَعَرٌ وصَيَد إذ أصابه داء يَلْوي منه عنقه.
ثم يقال للمتكبّر: فيه صَعَر وصَيَد؛ فمعنى: {لاَ تُصَعّر} أي لا تلزم خدّك الصَّعَر.
وفي الحديث: «يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أَصْعَرُ أو أبتر» والأصعر: المعرض بوجهه كبرا؛ وأراد رُذالة الناس الذين لا دين لهم.
وفي الحديث: «كلّ صعّار ملعونٌ» أي كل ذي أبَّهة وكبر.
الثانية: معنى الآية: ولا تُمل خدّك للناس كبرًا عليهم وإعجابًا واحتقارًا لهم.
وهذا تأويل ابن عباس وجماعة.
وقيل: هو أن تلوي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره؛ فالمعنى: أقبل عليهم متواضعًا مؤنسًا مستأنسًا، وإذا حدّثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه.
وكذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل.
قلت: ومن هذا المعنى ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث» فالتدابر الإعراض وترك الكلام والسلام ونحوه.
وإنما قيل للإعراض تدابر لأن من أبغضته أعرضت عنه ووليته دبرك؛ وكذلك يصنع هو بك.
ومن أحببته أقبلت عليه بوجهك وواجهته لتسرّه ويسرّك؛ فمعنى التدابر موجود فيمن صَعّر خده، وبه فسر مجاهد الآية.
وقال ابن خُوَيْزمَنْدَاد: قوله: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس} كأنه نهى أن يذلّ الإنسان نفسه من غير حاجة؛ ونحو ذلك روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس للإنسان أن يذلّ نفسه».
الثالثة: قوله تعالى: {وَلاَ تَمْش في الأرض مَرَحًا} أي متبخترًا متكبرًا، مصدر في موضع الحال، وقد مضى في سبحان.
وهو النشاط والمشي فرحًا في غير شغل وفي غير حاجة.
وأهل هذا الخُلُق ملازمون للفخر والخُيَلاء؛ فالمرح مختال في مشيته.
روى يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائذ الأزدي عن غُضيف بن الحارث قال: أتيت بيت المقدس أنا وعبد الله بن عبيد بن عمير قال: فجلسنا إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه فيقول: يا ابن آدم ما غَرّك بي! ألم تعلم أني بيت الوحدة! ألم تعلم أني بيت الظلمة! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدم ما غَرّك بي! لقد كنت تمشي حولي فَدّادا.
قال ابن عائذ قلت لغُضيف: ما الفدّاد يا أبا أسماء؟ قال: كبعض مشيتك يا ابن أخي أحيانًا.
قال أبو عبيد: والمعنى ذا مال كثير وذا خُيلاء.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من جرّ ثوبه خُيَلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة» والفخور: هو الذي يعدد ما أعطي ولا يشكر الله تعالى؛ قاله مجاهد.
وفي اللفظة الفخر بالنسب وغير ذلك.
{وَاقْصدْ في مَشْيكَ وَاغْضُضْ منْ صَوْتكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَات لَصَوْتُ الْحَمير (19)}.
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {واقصد في مَشْيكَ} لما نهاه عن الخُلُق الذميم رسم له الخُلقَ الكريم الذي ينبغي أن يستعمله فقال: {وَاقْصدْ في مَشْيكَ} أي توسّط فيه.
والقصد: ما بين الإسراع والبطء؛ أي لا تَدبّ دبيب المُتَمَاوتين ولا تَثب وثب الشطار؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» فأما ما روي عنه عليه السلام أنه كان إذا مشى أسرع، وقول عائشة في عمر رضي الله عنهما: كان إذا مشى أسرع فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت؛ والله أعلم.
وقد مدح الله سبحانه مَن هذه صفته حسبما تقدّم بيانه في الفرقان.
الثانية: قوله تعالى: {واغضض من صَوْتكَ} أي انقص منه؛ أي لا تتكلف رفع الصوت وخذ منه ما تحتاج إليه؛ فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلّف يؤذي.
والمراد بذلك كله التواضع؛ وقد قال عمر لمؤذّن تكلّف رفع الأذان بأكثر من طاقته: لقد خشيت أن ينشق مُرَيْطَاؤك! والمؤذّن هو أبو محذورة سَمُرة بن معْيَر.
والمُرَيْطاء: ما بين السرة إلى العانة.
الثالثة: قوله تعالى: {إنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} أي أقبحها وأوحشها؛ ومنه أتانا بوجه منكر.
والحمار مَثَل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك نُهاقه؛ ومن استفحاشهم لذكره مجردًا أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح فيقولون: الطويل الأذنين؛ كما يكنى عن الأشياء المستقذرة.
وقد عُدَّ في مساوىء الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة.
ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافًا وإن بلغت منه الرُّجْلة.
وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعًا وتذللًا لله تبارك وتعالى.
الرابعة: في الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة والمُلاحاة بقبح أصوات الحمير؛ لأنها عالية.
وفي الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوّذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانًا» وقد روي: أنه ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطانًا.
وقال سفيان الثَّوْري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير.
وقال عطاء: نهيق الحمير دعاء على الظلمة.
الخامسة: وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونًا بهم، أو بترك الصياح جملة؛ وكانت العرب تَفْخَر بجهارة الصوت الجَهير وغير ذلك، فمن كان منهم أشد صوتًا كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل، حتى قال شاعرهم:
جَهير الكلام جهير العُطاس ** جهير الرُّواء جهير النَّعَم

ويَعْدُو على الأيْنَ عَدْوَى الظَّليم ** ويعلو الرجال بخَلْق عَمَم

فنهى الله سبحانه وتعالى عن هذه الخلق الجاهلية بقوله: {إنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} أي لو أن شيئًا يهاب لصوته لكان الحمار؛ فجعلهم في المثل سواء.
السادسة: قوله تعالى: {لَصَوْتُ الحمير} اللام للتأكيد، ووحد الصوت وإن كان مضافًا إلى الجماعة لأنه مصدر والمصدر يدل على الكثرة، وهو مصدر صات يَصُوت صَوْتًا فهو صائت.
ويقال: صوّت تصويتًا فهو مصوّت.
ورجل صاتٌ أي شديد الصوت بمعنى صائت؛ كقولهم: رجل مالٌ ونالٌ؛ أي كثير المال والنوال. اهـ.